لعب التراث الإبداعي للكاتب والشخصية العامة للأديب عادل-غيري كيشيف دوراً هاماً في الحياة الروحية لشعب الأبازين، حيث احتل مكانة بارزة مرموقة للغاية في الأدب التعليمي لمناطق شمال القوقاز.

يعرف عن الكاتب عادل-غيري كيشيف (1837 -1872)، وهو من الأباظة، بأنه كاتب موهوب ومبدع، وقد تدرج كشخصية عامة ومن ثم كمربي ومعلم منذ حقبة ستينات وسبعينات القرن التاسع عشر، ويعود الفضل لكتاباته في توطيد الأهمية التاريخية والثقافية الكبيرة لشعب الأباظة، حيث أصبح تراثه الإبداعي جزءاً لا يتجزأ من الحياة الأدبية لشعب الأباظة.

الكاتب والمدرس والمحرر

ولد الأديب المبدع عادل-غيري في عام 1837 في قرية كيتشيف كوبان الواقعة في مقاطعة زيلينتشوكسك في محيط كوبان العليا، حيث تربى في أسرة الأمير الأبازيني كوتشوك كيتشيف في عام 1850، وهناك تمَّ تسجيله في المدرسة الخاصة الكائنة في مدينة ستافروبول لممثلي شباب نبلاء الجبال الأرستقراطيين، وفي العام 1858 تخرج من تلك المدرسة وحصل على الميدالية الذهبية (التي تمنح لأكثر الطلبة تفوقاً). ثم التحق بالدورات الدراسية المخصصة للتحضير من أجل الانتساب للجامعة في نفس تلك المدرسة، وبقي فيها لمدة سنتين.

وفي الأول من أغسطس عام 1860، تم تبني الشاب كيشيف بدون خضوعه للامتحانات ليلتحق في السنة الأولى من الكلية الشرقية لجامعة إمبراطورية سانت بطرسبرغ. وكان عليه أن يتعلم اللغات العربية والفارسية والتركية والتاتارية. غير أن كيشيف فشل في الحصول على التعليم العالي. بسبب أن شخصيته المحبة للحرية دفعته للمشاركة في الإضرابات التي شهدتها تلك الحقبة التاريخية في سانت بطرسبرغ. وبعد قمع اضرابات الطلبة، بدأت إدارة الجامعة في إدخال الثكنات العسكرية، وحظرت الاجتماعات، وفرضت نظاماً شبه عسكري، وهو الأمر الذي دفع بالعديد من الطلاب لمغادرة الجامعة احتجاجاً على ذلك، ومن بين الذين غادروا كان كيشيف نفسه.

وعند عودة كيشيف إلى ستافروبول، في أواخر نوفمبر من العام 1861، تمَّ تجنيد عادل- غيري كيشيف في المكتب الإقليمي بوظيفة مترجم ، حيث عمل هناك حتى بداية العام 1863. 

ومن هناك انتقل للعمل كمعلم في مدرسة خاصة، وفي شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1866، ومع إعادة هيكلة مدرسة غوبيرنسكايا وتحويلها إلى مدرسة كلاسيكية، عمل كيشيف كأمين عام في هيئة الرقابة في ستافربول ، ومع مرور سنوات الخدمة تم نقل كيشيف إلى مركز الأمانة العامة للكليات العلمية في ستارفربول حسب الأقدمية.

وهناك في ستافروبول استمرت خدمته حتى صيف العام 1867، وفي شهر آب / أغسطس انتقل إلى فلاديكفكاز، حيث عمل في المركز الإداري لمنطقة تيريسك، وحصل على منصب محرر في صحيفة "تيريسك فيدوموستي" – وهي أول صحيفة روسية في مناطق شمال القوقاز.

ولقد عمل كيشيف بكل إخلاص وتفانٍ حتى نهاية حياته القصيرة، ولكن تلك الحياة، ورغم قصر مدتها، كانت مشرقة ومثمرة. حيث توفي الكاتب الأبازيني  المشهور والموهوب، عادل- غيري كوتشوكوفيتش كيشيف، فجأةً، في العام 1872، و دفن في مدنية فلاديكفكاز.

الطالب اللامع كيشيف

كانت المدرسة الخاصة في ستافروبول منتصف القرن التاسع عشر، هي المدرسة المتوسطة الوحيدة في مناطق شمال القوقاز، ولذلك لعبت تلك المدرسة دوراً هاماً في تعليم وتربية أبناء سكان الجبال.

وقد درس عادل-غيري كيشيف في المدرسة الخاصة في ستافروبول بين عامي 1850 و 1860، حيث كان يدير المدرسة في تلك الحقبة، المعلم المتميز، المربي، والناشط الاجتماعي أنوري نيفيروف، والذي يعرف عنه بأنه يولي اهتماماً خاصاً لتلاميذ سكان الجبال. حيث كان بقية المدرسين في المدرسة، وبناءً على طلبه يتابعون كافة اللحظات النفسية و تفاصيل الحياة الأخلاقية لتلاميذهم من أبناء سكان الجبال، كما كانوا يشرفون على استيعاب الطلبة لمفاهيمهم العمل ، ناهيك عن أن هؤلاء المدرسين، كانوا يغرسون في قلوب تلاميذهم كل ما هو جيد وجميل.

وقد سعى المدير والمعلم القدير أنوري نيفيروف، لدعم ودفع الطلبة من كان الجبال إلى الأمام، بعد أن نجح في غرس الشعور بالهوية الوطنية والواجب المدني في قلوبهم وضمائرهم.

لقد كان الطالب المخضرم، عادل -غيري كيشيف، أحد التلاميذ المبدعين في هذه المدرسة الناجحة والمشرقة. ولذلك، تمَّ الاعتراف بعمله كأحد أفضل الأعمال الأدبية في المسابقة السنوية للتعبير باللغة الوطنية وحفظ التاريخ في عام 1857. وقد شارك كيشيف في تلك المسابقة بعمل أدبي مميز بعنوان: "شخصية الأبطال في القصص والروايات الروسية الحديثة".وفي السنة التالية، حاز كيشيف على المركز الأول ونال جائزة لكتابته مقالة: "السخرية في عصر بيتر الأول، وكاثرين في عصرنا". حيث أكدت لجنة التحكيم في تلك المسابقة، استقلالية العديد من الإستنتاجات التي توصل إليها كيشيف، والتي كانت نتيجة لدراسة طويلة للمسألة التاريخية وفق ملامح العصر المتعلقة بتلك الحقبة.

وخلال سنوات الدراسة تلك في هذه المدرسة، تشكلت لدى كيشيف، ولدى غيره من الشباب، الأسس التي تقوم عليها النظرة الديمقراطية للعالم بالنسبة للشباب، حيث باتت تلك الأسس الأدبية والعلمية، هي القاعدة التي بنى عليها جيل الشباب في تلك الفترة، آرائه الاجتماعية والسياسية، والتي باتت مثاله الأدبي والفني.

الإبداع الأدبي

في مدرسة  ستافروبول، بدا التلميذ الفذ، عادل –غيري كيشيف، مولعاً بالأدب بشكل خاص حيث أظهر موهبة أدبية متميزة. ويعود الفضل في ظهور هذه الميزة الكبيرة لدى كيشيف لمدرس الأدب الروسي، المعلم القدير، الخبير  فيدور يوخوتنيكوفا، والذي كان خبيراً في تدريس الكلاسيكيات الروسية والعالمية ، حيث أثار يوخوتنيكوفا اهتمام الطلبة العميق بمادته، وقدم لهم أعظم الإبداعات الأدبية.

وقد بدأ كيشيف في الكتابة والنشر منذ أن كان  تلميذاً، حيث وضعت له في العدد الخامس من مجلة "مكتبة للقراءة" ثلاثة من قصصه في العام 1860 تحت عنوان "ذكريات الشركسي"، وكانت عناوين هذه القصص الثلاثة هي: "شهرين في القرية" ، "الطالب دجينوف، و"تشوتشيلو".

وعندما أصبح كيشيف طالباً في الجامعة ، نشرت له قصة "إبريكي" في مجلة "روسكي فيسنيك" في عددها (رقم 11، الصادر عام 1860) ، ثم مقالة "ناخولمي" (في عددها الصادر عام 1861). حيث كان كل عمل من هذه الأعمال، جزء من التاريخ الحقيقي للسكان الأصليين.

وقد كان عمق المحتوى لتلك الكتابات والمنشورات، والتحليل النفسي الدقيق للعمليات الاجتماعية والاقتصادية، مرادفاً وموازياً لمستوى أعمال الكتاب من ذوي الخبرة.

وفي إحدى رسائله إلى ناشر مجلة "مكتبة للقراءة"، السيد دروجينين، يكتب عادل غيري كوتشوكوفيتش، قائلاً: "لقد حاولت في مدوناتي، تجنب أي شيء يخرج عن الحياة اليومية للشركس، خوفاً من أي اتهامات ذات أثر متعمد. لقد أردت أن أقدم الشركس ليس فقط على ظهور الخيل، ولا ضمن المواقف الدرامية، كما كان يتم تقديمهم من قبل، وإنما أردت تقديمهم في المنزل، أي من الجانب البشري".

ففي الأدب الروسي الفني والتاريخي خلال حقبة القرن التاسع عشر، وتحت مصطلح "الشركس"، ظهرت مجموعة متنوعة من جنسيات شمال القوقاز، لذلك اكتسبت كلمة "الشركس" معنى قريب من كلمة "سكان المرتفعات").

وقد نجح عادل-غيري كيشيف بإظهار نفسه ليكون أكثر نضجاً، كسيد للتعبير الفني بين أسلافه وبين المعاصرين من سكان المرتفعات القوقازيين، الذين كتبوا باللغة الروسية. حيث يلاحظ في عمله تطوير مبدع جداً لمبادئ الأدب الروسي الواقعي، واستخداماً أكثر موضوعية ومهارة للفولكلور الوطني، حيث استطاع كيشيف تقديمه بمهارة ضمن نسيج مختلط من الأعمال و الأقوال المجازية والأمثال التي دأب السكان الأصليون على استعمالها.

وقد ساعدت كل هذه العوامل والظروف والخصائص، الأديب المبدع  كيشيف، لينقل خصائص التفكير الموجودة في جوهر شخصيته، وهو ما أعطى أسلوب الكاتب نوعاً من لمسة الكتابة الملونة بحياة المرتفعات.

نشاطه التحريري

وهكذا، أصبح كيشيف في العام 1867 أول محرر رسمي لصحيفة "تيرسكي فيدوموستي"، التي كان مقرها في فلاديقفقاز، حيث نشر العدد الأول منها في 1 يناير من عام 1868. وقد نشرت الصحيفة أسبوعياً ما بين 400-500 نسخة، ووزعت في منطقة تيريك.

وقد سميت المادة الرائدة من السلسلة الأولى كما يلي: "بضع كلمات حول معنى نشر "تيرسكيه فيدوموستي". حيث تحدثت المقالة عن نوعية الصحيفة الجديدة، وعن موضوعاتها، إذ  قيل أن الجزء غير الرسمي من الصحيفة، سيغطي حياة سكان شمال القوقاز في مجموعة واسعة وشاملة تمثل "مجموعة مذهلة من القبائل، في كل منها، بعض السمات النموذجية فيما يتعلق بالعادات والتقاليد، وكذلك الحياة الاجتماعية والمحلية ، واللغة ، والمفاهيم الدينية".

من غير المشكوك فيه حقيقةً، أن كيشيف نجح في جذب أفضل القوى الإبداعية إلى صحيفة غورسكي. وقد انضم تدريجياً إلى هذا المحيط من إنغوشيا: تشاخ أخرييف، عادل- غيري دولغييف، كما انضم من أوستيا ميخائيل بايف، بوريس غاتييف، إينا لوكو تخوستوف، غاتسير شانايف، وانضم من قبردينا كلٌّ من، غازي أتاجوكين، ديميتري كودزوكوف، والعديد من ممثلي الإبداع الثقافي الروسي.

وقد اعتبرت هيئة التحرير المشرفة على "تيرسكي فيدوموستي"، والتي كان يرأسها كيشيف، أن عملية تعليم سكان المرتفعات، هي عامل أساسي ينبغي أن يقود الشعوب القوقازية نحو طريق التقدم والثقافة.

جدال حول أصل كيشيف

يعود الفضل في الكشف عن عادل ـ غيري كيشيف، في أوائل الستينات من القرن العشرين إلى ليودميلا غيورغييفنا غولوبيفا، التي عملت في ذلك الوقت في معهد أديغيا للبحوث.

وقد سلطت الباحثة غولوبيفا الضوء على أعماله المعروفة باسم "كالامبي" والتي عرفت في (الترجمة من العربية بـــ "سيد القلم")، حيث تضمنت أعمالها دراسة لسيرته الذاتية، ودراسة لتراثه الأدبي والصحفي والعلمي.

ثم انضم لاحقاً لدراسة حياة المربي ومتابعة أعماله الأدبية، العديد من الباحثين في مجال فقه اللغة، الإثنوغرافيا، والتاريخ، ومنهم:
رايسا خاشخوجيفا، توغان كوميكوف، مارك كوسفين، نوريا تابولوفا، غينري كوسوف، فيكتور كورزون، إلينا دانيلوفا، وغيرهم آخرين.

ومع ذلك، يعتبر جميع الفولكلورين الأديغيون الحديثين تقريباً، وكذلك النقاد الأدبيين، وغيرهم من المؤرخين والباحثين في العروق البشرية، أن كيشيف "بطبيعته أديغيّ"، ونظراً لكونه كاتباً أديغياً وناشطاً اجتماعياً في القرن التاسع عاشر، فإن أعماله تعتبر ذروة الأدب الذي ساد قبل الثورة باللغة الروسية واللغة الأديغية.

هذا وبالرغم من أن حقيقة شخصيته و سيرته الذاتية، وحتى سيرة والده كوتشوك كاشيفا، كانت معروفة بالتفصيل بالنسبة للخبراء والدارسين، إلا أن معظم مواد البحث المتعلقة بكيشيف قدمت للتداول العلمي. بالإضافة إلى ذلك، هناك الكثير من المصادر الروسية التي تعود للقرن التاسع عشر، والتي تتحدث عن الأبازين, وتذكر العديد من أمراء كياتشيفين (كيتشيفين، كيشيفين) كحكام لأحد فروع الأبازين-التابانتا (آشوا).

هذا السؤال بالذات، بات من المستحيل التحايل عليه، لذلك قام الناقد الأدبي الشهير البرفيسور فلاديمير باتاخوفيتش، بتسليط الضوء ضمن أعماله على هذه المشكلة، تحت عنوان: "من تاريخ الفكر الاجتماعي والتنويري عند الأبازين في القرن التاسع عشر".

حيث يثبت البرفيسور فلاديمير باتاخوفيتش بالدلائل أن عادل-غيري كيشيف كان أبازيني بالولادة وبالتربية، وباللغة، وحتى بالوعي الوطني.

كيشيف والحداثة

يعتبر النشاط الذي قام به عادل غيري كيشيف ذو أهمية كبيرة لجميع شعوب شمال القوقاز، حيث تدَّرس سيرة حياته وأعماله العلمية والأدبية ضمن البرامج التعليمية المدرسية والجامعية.

وقد عرف كيشيف بمعرفته العميقة في مجال التاريخ، والإثنولوجيا والفولكلور، حيث يتضح من حقيقة أعماله أنه يُدخل في الحقائق التاريخية الموثوق بها، لكونه يتحدث عن الوقائع المتعلقة بأسماء المواقع الجغرافية وأصولها، وهي الأسماء التي باتت تستخدم على نطاق واسع في كافة تعابير ومصطلحات جميع شعوب القوقاز، مثل التيوركسكي و الأديغة-الأبازين وحتى في العبارات الوطنية الخاصة وفي عبارات المحادثة.

وبناءً عليه بات كيشيف الممثل الأول لشعب الأبازين، لكونه تمكن من أن يصبح شخصية عامة ومشهورة، فهو كاتب خيالي ، وناشر ، حيث صنفت أعماله على أنها أحد قمم التنوير العلمي والثقافي والأدبي في شمال القوقاز خلال حقبة القرن التاسع عشر. علماً بأن الظروف التاريخية التي أحاطت به لم تكن لتسمح بانتشار الكتابة بين رجال القبائل، ولم تكن لتسمح بولادة وتطور الأدب، لكن وبالرغم من كل هذا فقد نجح كيشيف وزملاؤه من فتح الطريق وتمهيده للجيل القادم من المربين والأدباء ليكونوا قادرين في القرن العشرين على تنفيذ هذه المهمة التاريخية.

إن التراث الإبداعي لعادل-غيري كيشيف له أهمية إدراكية وتاريخية وثقافية دائمة. وقد أصبحت أعماله جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الوطنية والحياة الروحية لشعب الأبازين في عصرنا ، وقد باتت أعماله الأدبية والتاريخية  فخراً لشعب الأبازين، فضلاً عن أنها باتت تعتبر فخراً لجميع شعوب شمال القوقاز.