رجل الدولة اللامع، وعالم الآثار، والمؤرخ، المتخصص بعلوم القوقاز، والرجل الذي اهتم بمصير الوطن ودائما دافع عن الحقيقة - هذا ليس كل ما قيل عن شخصية يوري نيكولايفيتش فورونوف. الذي كان سيبلغ من العمر 78 عاماً في 8 آيار/مايو.

اريفا كاببا

عالم الآثار الشهير، والمؤرخ، والمتخصص في علوم القوقاز، ورجل الدولة والشخصية العامة يوري نيكولايفيتش فورونوف ولد في 8 مايو 1941 في قرية تسابال، تحديداً في "ياسوتشكا".

عائلة فورونوف النبيلة الروسية القديمة تعود إلى الأمير الليتواني ديمتري بوبروك-فورونوفسكي، أحد أحفاده كان يخدم كمحضر للمائدة في بلاط إيفان غروزني. وفي عام 1863 تم نفي الجد الأكبر ليوري فورونوف، نيكولاي إيليتش فورونوف، لعلاقته مع الثوري غيرتسن والثوار الآخرين إلى القوقاز مدى الحياة. وفي العام 1874، "من أجل الخدمات الشخصية لمنطقة القوقاز وشعوبها"، منح نيكولاي إيليتش فورونوف قطعة أرض (463 هكتار) في قرية تسابال الأبخازية القديمة. وهكذا ظهرت عائلة فورونوف في أبخازيا.

من تسابال   

توفي والد يوري فورونوف على الجبهة أثناء الحرب الوطنية الكبرى، وربت الأطفال في" ياسوشكا " الأم سفيتلانا فاسيليفنا والجدة ليودميلا نيكولايفنا.

يوري فورونوف اهتم بعلم الآثار منذ الطفولة، وما سهل هذا عليه إلى حد كبير أن الأسرة عاشت في تسابال الغنية بالمعالم الأثرية، كما كانت هناك القلعة القديمة أبسيلي، وموقع تسابال التي كانت جزءا من أحد فروع طريق الحرير العظيم، فرع دارينسك.

"الثروة الأثرية في أودية تسابال كانت معروفة من قبل كبار عائلة فورونوف" – كما كتب الكسندر سالاتيكوف صديق أسرة فورونوف في مقالة "شهيد الشرف".

وأشار الى أن في أملاك أرض فورونوف تلة تدعى تلة فورونوفسكايا، مع أنقاض كنيسة قديمة، تعرف في الأدب العلمي باسم "فورونوفسكايا". ومن هناك تحديداً كونتيسة أوفاروفا (العالمة الروسية والمؤرخة وعالمة الآثار من عائلة الأمراء شيرباتوف –اضافة المحرر) تم استخراج الرموز الشهيرة — المنحوتات الحجرية من القرن السادس والسابع، ونقلتها وسلمتها إلى متحف إيرميتاج، و بعد الثورة تم نقل هذه الآثار إلى تبليسي.

شارك فورونوف وهو لا يزال طالب مدرسة في الحفريات الأثرية في قلعة باغرات ( قلعة من القرون الوسطى، ونصب معماري في فترة وجود المملكة الأبخازية القيصرية - اضافة المحرر) في مدينة سوخوم، التي كانت تحت اشراف عالم الآثار الأبخازي الشهير ميخائيل ترابش. حبه لعلم الآثار أصبح عاملا حاسما في حياة يوري والذي كان مصمما على دخول قسم الآثار في جامعة لينينغراد الحكومية، وبإرادة القدر في العام 1960، التحقق فورونوف في كلية دراسة الشرق – في قسم العلوم المصرية.

وكان معلموه من المتنورين الحقيقيين في العلوم: الأكاديمي فاسيلي ستروف، والبروفسور ميخائيل غارغير، والمستشرق بوريس بيوتروفسكي وآخرون. وقد قرر يوري بحزم، كونه طالبا، أن يكرس جميع بحوثه كعالم لعلم الآثار في أبخازيا، الذي اعتبرها وطنه بكل تأكيد. 

وكتب أوليغ بغاجبا في مقالته عن فورونوف: "ولهذا لم يُظهر فورونوف اهتماما في كلية الدراسات الشرقية التابعة لجامعة لينينغراد الحكومية لفرصة المشاهدة المباشرة لمقابر خفرع أو دجوسير (الموجودة في الأهرامات المصرية القديمة خفرع و زوسر – اضافة المحرر) ... و أنه عند الانتهاء من دراسته عاد إلى وطنه أبخازيا، حيث ظهر نشاط حثيث لحماية الآثار الثقافية عند طالب الدراسات التاريخية تحت إشراف المؤرخ المحلي الشهير فيانور باتشوليا في كل مخابر الاتحاد السياحية".

علم الآثار المُهيمن   

ومن الإنجازات العلمية العديدة التي حققها يوري فورونوف "الخريطة الأثرية لأبخازيا"، التي يستخدمها جميع علماء الآثار ككِتاب مرجعي. كما يُعتبر هو أيضا الخبير الرئيسي في قبائل الأبسيل الأبخازية القديمة وأبسيليا (التشكيل المبكر للدولة الأبخازية القديمة-اضافة المحرر). وحصلت الحفريات الأثرية في بلده تسابال على اسم بعثة تسابال.

وكتب بغاجبا في هذا الصدد: "تم الكشف بالكامل عن موهبة يوري فورونوف كعالم آثار في المعهد الأبخازي، حيث التحق العالم بصعوبة كبيرة فيه، ولكن هنا كان ينتظره طروادة الخاصة به في تسابال، في قلب أبسيليا، حيث خدم بإخلاص حتى نهاية حياته. وكانت نتائج بعثته تسابال تتجاوز حدود أبخازيا بكثير".

وأشار بغاجبا كذلك الى أن من الأعمال العلمية الرئيسية لفورونوف كانت أطروحة الدكتوراه "شرق منطقة البحر الأسود في العصر الحديدي (القرن الثامن قبل الميلاد – القرن الثامن للميلاد)"، والتي دافع عنها في موسكو لمدة ست ساعات: "يوري فورونوف كان في ذروة الحالة. وذلك لأن الأهمية الرئيسية لهذا العمل، هو أن العالم من أبخازيا تجرأ للعثور على الحدود بين العصر البرونزي والعصر الحديدي، وهذا أدى إلى نقل العديد من المعالم الأثرية ليس فقط في القوقاز، ولكن أيضا في الأراضي المجاورة، والتي هي معتمدة اليوم من قبل الغالبية العظمى من المتخصصين".

الدكتور في العلوم التاريخية، عضو مناظر في أكاديمية سلافيان الدولية للعلوم البروفيسور يوري نيكولايفيتش فورونوف الذي يمتلك أداءاً مذهلا. ومن تحت قلمه ظهرت المئات من الصحف العلمية، والكتب، والمقالات. فورونوف كان أول برفيسور في الجامعة الأبخازية الحكومية بعد الحرب، وفي أوقات مختلفة ألقى محاضرات في سوربون وكامبريدج.

من ذكريات زوجة فورونوف  

تصف زوجته سفيتلانا خوتشولافا- فورونوفا بشكل مثير للاهتمام التعارف الأول مع يوري فورونوف، في مقالة "أنا لم أعرف إنساناً أفضل". التقيا في عام 1974 في بيتسوندا، في الملتقى العلمي الثاني الذي جمع العلماء الشباب و المبدعين تحت إشراف آليكو غفاراميا (عميد جامعة أبخازيا الحكومية،والبرفيسور، و دكتور في علوم الفيزياء والرياضيات – اضافة المحرر)، وكان نائبه فورنوف.

"أتذكر كيف جلسوا على خشبة المسرح، " وترأسوا "الحلقات دراسية،" - كما كتبت خوتشولافا- آليكو في البدلة ذات التصميم الرائع، والقميص الأزرق الذي يعكس لون العينين، ذكي، جميل، و يورا باللحية السوداء الكثيفة، مع نظراته المعبرة، المطلة احيانا من فوق نظارته، طويل، ببدلة الجينز الأمريكية، التي تذكرنا بالمشهور في تلك السنوات بفيدل كاسترو. كلاهما مختلفان تماماً في المظهر، وموهوبان ببراعة، وقد جذبا انتباه الحضور لعفويتهما من غير قصد".

ووفقا لزوجة العالم، يوري نيكولايفيتش قام بعمل عظيم في نشر ليس أعماله فحسب، بل أيضا الأعمال العلمية لعلماء مشهورين آخرين ولعلماء آثار. لذا، بعد وفاة أول عالم آثار أبخازي ميخائيل ترابش، قام بتفكيك وطلب أرشيفه واستعد لنشر "أعماله". كما عمل بعناية مع أعمال عالم الآثار الكبير في أبخازيا ليف نيكولايفيتش سولوفيوف، وكتب كتابا عنه.

بالطبع، لم يحب الجميع نشاط العالم العبقري، كما كتبت زوجته، فمع وصول زفياد كامساخورديا الى السلطة في جورجيا (رئيس المجلس الأعلى لجمهورية جورجيا الاشتراكية السوفياتية (1990-1991) والرئيس الأول لجورجيا ( 1991-1992) – اضافة المحرر) كثف الضغط على فورونوف: "في جورجيا كانت الصحف، والتلفزيون، والراديو والوسائل الإعلامية الأخرى قد أظهرت صورة تصفه ليوري فورونوف "بالكاذب" و "الفاشي" و"الروسي المحتل". أصبح من المستحيل لنا الخروج الى الشارع، وكم من مرة اوقفونا، واهانونا، وبصقوا من خلفنا وهددونا بالهاتف، وأرسلوا لنا برقيات تعزية كاذبة بوفاته... أتذكر كيف كانت ردة فعل يورا على تلك البرقيات بقوله: " نادراً ما يقرأ الشخص برقية عن وفاته، هذا شئ فظيع!"، و بصوت عال قهقه وضحك". تم إرسال البرقية باسم العالم الشهير من لينينغراد تورتشانينوف، وكما علمنا فيما بعد، ففي هذه الايام كان تورشانينوف، وهو رجل عجوز ومريض، قد تلقى برقية مماثلة باسم فورونوف".

للحقيقة في العلم والسياسة  

"يوري نيكولايفيتش كان عاجزاً تماما عن أن يتصرف خلافا للحقيقة، والحقائق العلمية، حتى أدرك، أن هذا سيزعج السلطات القائمة، كما اتضح في مجال تاريخ أبخازيا وجورجيا. كم مرة تم التلميح له أن حالته الاجتماعية تعتمد على كيفية تناسبه في صفوف المؤرخين الذين يعيشون ويزدهرون. عادة ما كان يوري نيكولايفيتش بشكلٍ فني، وبذكاء يخرج من هذه المناقشات" كما كتب نيكولاي بونداريف، صديق فورونوف، والذي كتب كِتاب "أبخازيا الجبلية"، وكان المشرف عليه يوري نيكولايفيتش.

إن السنوات الأخيرة من حياة فورونوف ترتبط ارتباطا لا ينفصل عن الأحداث الاجتماعية والسياسية التي حدثت في أبخازيا الحبيبة. وكانت ذروة هذه الأحداث هي الحرب الوطنية لشعب أبخازيا. وقبل الحرب في عام 1991، انتخب فورونوف عضوا في المجلس الأعلى لأبخازيا.

وكتب فورونوف يكتب في مقدمة كتاب "ألمي، أبخازيا"، الذي نشر قبل فترة وجيزة من وفاته في عام 1995" "الحرب في جمهورية أبخازيا لفترة طويلة حرمتني من الأمل في استمرار الدراسات الاستقصائية الأثرية والتاريخية عن القوقاز،غير أن الخبرة والمعارف والصلات المكتسبة في السنوات السابقة أثبتت جدواها في الظروف القاسية. بعد تحديد منصِبي كرئيس اللجنة البرلمانية لحقوق الإنسان، وضع على عاتقي عبء الدعم الأيديولوجي لنضال وصراع أبخازيا و الشعوب الأخرى من الجمهورية و الأراضي المجاورة ضد النظام الدموي لشيفرنادزه (السوفييتي الجورجي، والرجل السياسي ورئيس حكومة جورجيا (1995-2003) – اضافة المحرر) والقوى التدميرية الأخرى المساندة له من الدول القريبة والبعيدة".

وخلال العمليات العسكرية في أبخازيا فورونوف، شارك في المفاوضات أكثر من مرة. وشارك أيضا في محادثات أيلول الشهيرة في موسكو في عام 1992، عندما التقى فلاديسلاف أردزينبا وإدوارد شيفاردنادزه وبوريس يلتسين. كما حاول يوري نيكولايفيتش – إن كان في موسكو أو سانت بطرسبرغ أو شمال القوقاز، أو في بريطانيا العظمى، أو بريدنيستروفي - وفي كل مكان أن ينقل إلى الناس الحقيقة حول ما يحدث في أبخازيا. فتعاون مع الصحفيين، وكتب المقالات، وأجرى المقابلات الصحفية، وتحدث على الراديو.

أول رئيس لأبخازيا فلاديسلاف آردزينبا، قد قدَّر هذه المهمة ليوري نيكولايفيتش فورونوف: "خلال العدوان 1992-1993، فورونوف ترأس الصراع الإعلامي عن أبخازيا، وانتصرنا. وكان هذا الكفاح مستمرا في كل مكان، حتى في سوخوم المحتلة، حيث كان من المهم ليس البقاء فحسب، بل أيضا الحفاظ على شرف وكرامة مواطني أبخازيا".

ويوري فورونوف مؤلف "الكتاب الأبيض لأبخازيا"، الذي يكتسي أهمية بالغة بالنسبة للباحثين في الحرب، حيث جمع وثائق ومواد وأدلة لا تقدر بثمن. 

وقالت زوجة العالم سفيتلانا خوتشولافا: "صدر الكتاب في الذكرى السنوية للقتال في 14 أغسطس عام 1993، عندما كانت الحرب لا تزال مستمرة. يوري نيكولايفيتش كان في عجلة من امره في النشر، كما انه يعتقد أن العَالم ينبغي أن يعرف حقيقة حول ما يحدث في أقرب وقت ممكن". 

مقابلة مع يوري فورونوف، أعوام 1992-93
© هيئة الإذاعة والتلفزيون الأبخازي الحكومي

يتحدث عن فورونوف الناشط العام والحكومي سقراط دجيندجوليا: أثناء الحرب كُشف جانب جديد من الطبيعة الإبداعية لفورونوف: فقد أظهر نفسه كناشر بارز.

"وكان أداؤه اللامع والمقنع الذي لا يُنسى على شاشات التلفزيون والصحافة يسعى إلى تحقيق هدف واحد وهو: إظهار من بدأ الحرب، ومن هو المعتدي ومن هو الضحية. وله فضل عظيم في حقيقة أنه في الدول القريبة والبعيدة في الخارج أصبح الفهم الحقيقي يهيمن لما حدث و يحدث في أبخازيا، وما الذي يتطلع إليه شعب هذه الجمهورية الصغيرة ذو التاريخ الثري". 

مقابلة مع يوري فورونوف، أعوام 1992-93
© هيئة الإذاعة والتلفزيون الأبخازي الحكومي

"اختبار السلام"

وبعد الحرب عُين يوري فورونوف نائباً لرئيس وزراء حكومة جمهورية أبخازيا. وفي الظروف الصعبة وبشكل لا يصدق من الدمار بعد الحرب، قد عمل على توحيد جميع سكان الجمهورية، للتغلب على آثار الحرب، قال الكثير وكتب أنه بعد الفوز في الحرب نمر بصعوبات ليست أقل وهي "اختبار السلام".

كما يتحدث المؤرخ يوري أنتشابادزه عن وجهات النظر السياسية لفورونوف، في المقالة "يوري فورونوف في سياق تاريخ أبخازيا في القرن العشرين" فيكتب: "رأى يوري فورونوف مستقبل أبخازيا فقط من خلال السيادة الاثنية السياسية. وفي الوقت نفسه شدد على الحاجة إلى الفهم الواضح للمزايا والعيوب الجغرافية للجمهورية مبررا أضرار إنشاء حدود صارمة لا يتم اختراقها من نهر بسو، ودعا إلى استعادة الطرق التقليدية للقوقاز، وعودة الأهمية الاقتصادية للبحر الأسود".

وفي 11 أيلول عام 1995، قُتل يوري نيكولايفيتش عند مدخل المنزل في سوخوم حيث عاش مع أسرته. الجريمة لم يكشف عنها بعد واسم القاتل غير معروف. وعندما حدث ذلك، أرسل مئات الأشخاص برقيات التعازي: ذهبوا إلى أبخازيا في حشود لا نهاية لها. وودَع آلاف الأشخاص في أبخازيا فورونوف بحزن شديد في مثواه الاخير. ودفن بجوار المتحف الأبخازي الحكومي، حيث توضع اكاليل الزهور الى يومنا هذا، من قبل أولئك الذين يعتزّون بذكرى العالم العظيم ورجل الدولة المتميز.

ويكتب عن رحيل يوري نيكولايفيتش صديقه المقرب الكاتب دجوما أخوبا: "لدى شعبنا هذه الصورة: عندما يطول النهار، يقولون-إن الضوء أصبح أكثر بقفزة غزال إلى الأمام. وعندما يقصُر النهار، يقولون أن الغزال قفز الى الخلف. عندما أفكر بصديقي يوري فورونوف، أتذكر هذه الصورة. مع وصوله إلى العلم، ثم الي السياسة، علمنا وسياستنا قامت بقفزة كبيرة إلى الأمام. وآمل أنه مع رحيله، وبعد وفاته، لن يكون هناك قفزةً إلى الوراء، هو إرث عظيم جدا، ترك لنا ثروته الروحية.

وعلى الكِتاب الذي أهداه يوري لصديقه دجوما أخوبا كتب: للأبخازي في الدم من الأبخازي في الروح".

يوري فورونوف هو مؤلف لأكثر من 800 مقالة علمية وصحفية، بما في ذلك حوالي 30 دراسة. وهناك بعض الأجزاء والأعمال غير المنشورة في انتظار ساعة نشرها.

تم تقدير فورونوف بوسام الشرف والمجد من الدرجة الأولى، وأيضا بعد وفاته أصبح الفائز بالجائزة الوطنية الروسية "تراث الأجيال" لمساهمته الكبيرة في الحفاظ على التراث الأثري.