105 عاما على بداية الحرب العالمية الأولى، التي حارب في ساحاتها الجنود الأبخاز، وأظهروا شجاعة استثنائية في المعركة، والإخلاص المتفاني للوطن.

آريفا كاببا

بدأ أحد أكبر الصراعات المسلحة في تاريخ البشرية، الحرب العالمية الثانية، عندما أقدم البوسني الصربي غافريلا برينتسيب على قتل وريث العرش النمساوي المجري الأرشيدوق فرانز فرديناند في 28 من شهر حزيران/يونيو من العام 1914 في مدينة سراييفو. 

الطرفان الأساسيان الذان تحاربا في ذلك الوقت كانا كل من الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية البريطانية و الجمهورية الفرنسية من جهة، وقد اتحدت هذه الدول في تحالف تحت اسم الوفاق، و من الجهة الأخرى، ألمانيا، والنمسا-المجر والإمبراطورية العثمانية والمملكة البلغارية، وقد أعلنت الحرب رسمياً في 28 يوليو 1914، ويصادف هذا العام مرور 105 سنوات على بدايتها.

الشجاعة و"الذنب"

لقد حارب العديد من أبناء شعوب القوقاز ببسالة تحت أعلام الإمبراطورية الروسية في الحرب العالمية الأولى: الأوسيتين، والشيشان، و القرشاي، والشركس، والانغوش، والداغستان، والأبخاز، والأبازين وغيرهم الكثير. وقد أبدوا أنفسهم كمحاربين شجعان وماهرين، وتجاوز مجد مآثرهم العسكرية الإمبراطورية الروسية. وفي الوقت نفسه، من المدهش أن سكان المرتفعات، ولا سيما الأبخاز، قرروا القتال في هذه الحرب وذهبوا إليها طوعاً. بعد كل ما حل بهم، كان موقعهم في ذلك الوقت لا يحسد عليه.

وهنا يتحدث عالم في تاريخ القوقاز روسلان غوجبا عن الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى:

"بعد حرب القوقاز (عام 1864-اضافة المحرر) وما تلا ذلك من انتفاضات للشعب الأبخازي ضد الحكم الاستبدادي في عامي 1866 و 1877 باتت أبخازيا فارغة تماماً، ولم يبقي فيها سوى 19 ألف أبخازي، ثم خلال السنوات العشر التالية عاد نحو 30 ألف أبخازي، وحملت السلطات الروسية صفة "الشعب المذنب" للأبخاز (إتهمتهم السلطات القيصرية بتنظيم الانتفاضات –اضافة المحرر) ومنع الناس من العيش في المنطقة الممتدة من نهر أباستا حتى نهر كودور. وظل معظم الأبخاز يعيشون هنا في المحمية في مناطق كودور وسامورزاقان وغوداؤوتا. واستمرت هذه الصفة حتى العام 1907".   

وحتى بعد إزالة "صفة الذنب" لم يتم قبول الأبخاز في الجيش، باستثناء مقاطعة سامورزاقان وممثلي الأسر الأرستقراطية الذين ظلوا قادرين على تأدية الخدمة العسكرية.

الدفاع عن الوطن ليس وكأنه "زوجة أب شريرة" بل "كأنه أم"  

  وعندما بدأت الحرب، بدأ تشكيل فرقة الخيالة القوقازية، وطلب الأبخاز من السلطات القيصرية أن تشركهم في هذا التشكيل بوصفهم شعب الجبال المتطوعين. وهكذا ظهرت المئة الأبخازية المشهورة.

"لقد كان معظم خيالة "الفرقة البرية" المشهورة (الاسم غير الرسمي الملحق بفرقة الخيالة القوقاز –اضافة المحرر) أحفاد أو أبناء أعداء سابقين لروسيا. ولكن ذهبوا الى الحرب للدفاع عن روسيا طوعياً، دون أن يرغمهم أي أحد أو أي شيء على ذلك. في تاريخ الفرقة البرية، لا توجد أي حالات فرار" بحسب ما كتب أحد ضباط فوج القباردي أرسينييف في مذكراته.

شاهد ومشارك آخر في أحداث الحرب، الكونت (بالتسكي)، الذي قدَّر كثيراً شجاعة ونبل الجنود القوقاز، وكتب سطور جميلة عنها. ومن المستحيل عدم تقديم هذا التقييم بكامله: 

"لقد حققت الفرقة نجاحا هائلا في القتال، إذ تمكن فوج القبردي لوحده فقط في تشيرنوفتسي في مايو 1916 بأسر حوالي 1483 أسير، بما في ذلك 23 ضابطاً، وعموماً كان عدد الأسرى أربعة أضعاف الفوج بأكمله. عانت الفرقة من الكثير من الخسائر خلال نشاطاتها القتالية، ولكن سكان المرتفعات القوقاز صمدوا ولا يزالون متمسكين بشجاعة كبيرة وحزم لا يتزعزع. هذه واحدة من أكثر الوحدات العسكرية موضع ثقة و فخر للجيش الروسي، فقد كان لدى القوقاز الأسباب الأخلاقية الكاملة لعدم المشاركة في الحرب. فنحن قد سلبنا من القوقازيين كل شيء: جبالهم الجميلة، طبيعتهم البرية، الثروة التي لا تنفد من هذا الجانب المبارك. وعندما اندلعت الحرب، ذهب القوقازيون طوعاً للدفاع عن روسيا، الدفاع عنها بلا أنانية، ليس كالدفاع عن زوجة أب شريرة، ولكن كالدفاع عن أم. كل أهل القوقاز ما زالوا يعيشون الروح الحقيقية للفروسية، أما الخيانة، والهجمات من وراء الظهر، فهم غير قادرين على فعلها. فالرقة الوحشية لم تحارب ضد روسيا أو ضد حريتها، إنهم يقاتلون مع الجيش الروسي، وقبل كل شيء، هم في مقدمة الجميع، و هم أشجع من الجميع، ويموتون من أجل حريتنا".   

ويشير المؤرخ غوجبا إلى أنه عندما تم تعيين الجنرال كورنيلوف قائداً للقوات في عام 1917، أعلن عن استعراض الفرقة القوقازية، التي اعتبرت واحدة من أكثر الوحدات موثوقية في الجيش القيصري. "بحسب ما كتبه شهود العيان لتلك الأحداث، فقد برز بوجه خاص تشكيلة الشيشان والأبخاز ذوي القلنسوة البيضاء. كورنيلوف،قد قال، بعد مشاهدة ما يقرب من 2000 خيال: أخيرا تنفست هواءاً عسكرياً، بمعنى "أخيرا رأيت محاربين". 

"المئة حملة الصليب"

الأبخاز المئة هم جزء من فوج الخيالة الشركس الذي بدوره كان جزءا كبيرا من فرقة الخيالة القوقازيين (أيضا الشعبة شملت جزء من القبردي، الداغستان، التتار، الشيشان، فوج الخيالة الانغوشي و لواء المشاة الأوسيتي –اضافة المحرر). وقد لوحظ أن المقاتلين الأبخاز كانوا يتمتعون بسلوك وشجاعة استثنائيين، حتى في صفوف القوقازيين. ولم يكن في صفوف "المائة الأبخازية"  شخص واحد لم يمنح ميدالية عسكرية، ولذلك تمت تسميتهم بـ "المئة حملة الصليب"، بحسب ما يؤكد روسلان غوجبا.

ويعتقد المؤرخون أن كلمة "مائة" مشروطة إلى حد ما: فقد شارك ما يصل إلى 500 أبخازي في الحرب. ودخل الجنود الأبخاز الحرب عبر الممرات الجبلية، عبر مدينة توابسي، واجتازوا دورات تدريبية في مدينة أرمافير، ثم انضموا عندها إلى الجيش.

وحصل عشرة أبخاز على أعلى الجوائز العسكرية في الإمبراطورية الروسية. ووفقا لغوجبا، فإن قائد "الأبخاز المائة" في فوج الشركس الكورنيت كونستانتين (كونتسيّ) لاكرباي (لاكربا) مدرج ضمن أفضل اثني عشر محارباً في الجيش الملكي. نشرت هذه القائمة في مجلة "نيفا" في عام 1916.


 الوسام الذهبي غيورغفسكي "للشجاعة" مُنح للأبخاز أيضاً ومنهم: ضابط صف محمد أغربا، قائد فوج الانغوشي العقيد غيورغي مارتشول، الملازم فارلام شينغيلاي. فيما حصل على وسام غيورغي كلا من: الضابط من فوج القبردي أيدامير تسوشبا، والضباط من الأبخاز المئة: ديمتري أتشبا و فاسيلي ماغبا، وكونستانتين كوغونيا، ورمضان شخالاسوف. ولشجاعتهم الشخصية، مُنح صليب غيورغفسكي العسكري للضباط-الأبخاز، ومن بينهم ضابط صف فرقة الخيالة التترية وهو الأمير خايتبي تشاتشبا.

التاريخ المجيد   

هناك قصص عديدة عن المآثر العسكرية التي قام بها ممثلو المائة الأبخاز. منها، أولا وقبل كل شيء، القائد الفذ للفرقة "البرية" الكورنيت لاكرباي، ولكن ليس هو فقط.

ومن بين الأسماء المجيدة للقوقازيين الشجعان يبرز اسم المحارب الأبخازي غيورغي مارتشول. كان قائد فوج الإنغوش وكان يعتبر أفضل خيال في روسيا. 

ويقول رسلان غوجبا: "في العام 1909 جرت في أوروبا مسابقات لأفضل خيال، في ذلك الوقت كان الأفضل في هذا المجال هم البريطانين و الفرنسين، أما (غيورغي مارتشول –اضافة المحرر) فقد قاد فريق الخيالة الروس في هذه المسابقات، وفازوا بها، وعُرِف على أنه إله ركوب الخيل".    

الانغوش احترموا غيورغي مارتشول الأبخازي، الذي قاد فوجهم، ولقبوه ب "الباشا" (الانغوش– معظمهم من المسلمين، ولقب "باشا" هو أعلى لقب في النظام السياسي في الدول الإسلامية، وتستخدم أصلا كرتبة عسكرية – اضافة المحرر) حتى أنهم قاموا بالهجوم وهم يرددون الأغنية، والتي كانت كلماتها: "نحن لا نعرف الخوف، نحن لا نخشى الرصاصة، فنحن تقودنا في الهجوم شجاعة مارتشول. الأسلحة تضرب، السعادة من القلب، فكل روسيا تعرف الفرسان-الانغوش". هذه الأغنية لا يزال يتذكرها "الإنغوش" جيدا حتى وقتنا الحاضر، كما يؤكد غوجبا.

في فوج الشركس ذات مرة نُظم نوع من المنافسة للتعرف على "أفضل محارب". كان هناك العديد من الجديرين، ولكن أفضل محارب كان واحداً من الأبخاز –تاربا أخمادجيرا، الذي حصل على ثلاثة أوسمة صليب غيروغفسكي. كما أنه كان يرتدي ساعة فضية بفخر، والتي كانت عبارة عن هدية شخصية من الإمبراطور الروسي نيكولاي الثاني.

و في القصة التالية يذكر غوجبا مباشرة أسماء لعدد من الفرسان الشجعان، فيقول: "عندما تم إعطاء المحاربين إجازة لمدة أسبوعين في مؤخرة الجيش، نظموا سباقا بينهم، وكان الفائز المحارب الأبخازي شين لاكويا، الذي قام بالأعجوبة أمام الجميع، إذ رفع حصانه على رجليه الخلفيتين و حافظ على هذه الوضعية على بعد نصف متر من اللجنة، وردد: الخيال من صفوف المئة الأبخازية فوج الشركس شين لاكويا".

وتابع: "أما الشركس، الذين كانت خيولهم تعتبر الأفضل، خاب أملهم قليلا مع نتيجة السباق، ثم عرضوا عقد مسابقات بين المصارعين. من الشركس، خرج بطل المصارعة الأصيل بطول 2.20 سم، ممثل أسرة القرشاي الأميرية كريمشاخالوف. وخرج ضده من الأبخاز المحارب الشجاع شامان سابيكيا من القرية الأبخازية تخينا. كان طويلاً، وواسع المنكبين، وقويا. وخلال ثوان، كان القارشاي على كتفيه، وهكذا ظهر الأبخاز على أنهم الأقوى".

 11 أبخازيا ضد مئات النمساويين

وهناك أيضاً بطل آخر من الأبخاز المئة وهو الأبخازي الشهير فاسيلي (واسيل) لاكوبا، الذي منح ثلاثة أوسمة صليب غيورغفسكي. وتمكن هو وعدد من الأبخاز – كان عددهم 11 شخصاً — من الاستيلاء على مقرٍ نمساوي.

ويقول روسلان غوجبا: "المقر كان على تلة تحيط بها المستنقعات، ويحيط به ثلاث حلقات من الأسلاك الشائكة، وفي المقر كان هناك أكثر من مائة نمساوي، وتمكن الأبخاز من الوصول الى هناك تحت النار، قطعوا الأسلاك الشائكة، ثم ألقوا القبض على 24 شخصاً وصادروا أسلحة الأعداء. وبعد المعركة تم جمع طابور الفرقة القوقازية، ودعي الأبخاز للقيام بخطوة إلى الأمام، وشكرهم قائد الفرقة نيابة عن الإمبراطور على الاستيلاء على المقر، وطلب منهم أن يذكروا أي من رغباتهم التي ستتحقق مباشرة بعد الحرب. قيل لهم: أخبرونا، ما هي أمنياتكم. فتقدم الضباط وقالوا: أولا وقبل كل شيء، نريد لأطفالنا، ذكورا وإناثا، أن يدرسوا، وثانيا — أن أبخازيا ليست منطقة (في ذلك الوقت كانت أبخازيا جزءا من الإمبراطورية الروسية بوصفها منطقة أبخازية عسكرية –اضافة المحرر)، ولكن مقاطعة في البحر الأسود. وثالثاً –الحق في حمل السلاح. وتمت إجابتهم عن هذا، بأن جلالة-الإمبراطور طلب عناق كل واحد منهم وأكد أن كل رغباتهم ستتحقق بالتأكيد مع نهاية الحرب".
لكن هذه الرغبات لم تتحقق. فأيام الإمبراطور كانت معدودة، وبعد فترة قصيرة انهارت الإمبراطورية الروسية.

ذكرى الأبطال تصنع أبطالاً جدد

بعد عودتهم من جبهات الحرب العالمية الأولى، العديد من المشاركين في الأبخاز المئة أصبحوا مشاركين نشطين في الفرقة الثورية "كياراز"، و ساهموا في تأسيس السلطة السوفياتية في أبخازيا. والعديد منهم في عام 1937 أصبحوا ضحايا القمع، من بينهم، على سبيل المثال، أربعة أخوة من عائلة ماغبا، وفاسيلي لاكوبا وآخرون.

ويرى روسلان غوجبا، أن أسماء العديد من المشاركين في "الأبخاز المئة" منسيون بشكل غير مستحق ، مستشهدا على ذلك،على سبيل المثال، الأهمية المعطاة لبطولة الجنود-القوقازيين الآخرين: "في ذكرى مرور مائة عام على الحرب العالمية الأولى. في إنغوشيا تم وضع نصب تذكاري لخيالة الفوج القوقازي، والذي أثناء افتتاحه تمت دعوة حفيدة قائد الفرقة القوقازية الأمير ميخائيل رومانوف، ونشروا ألبوماً مخصصاً، وحدث نفس الشيء في أوسيتيا.

ويعتقد المؤرخ أن تذكر أبطالنا هو واجب مقدس متواجد عند كل الشعوب "كما يقول الفلاسفة، تبجيل الأبطال يربي ويخلق شخصيات جديدة التي ستحمي الوطن على الدوام".

أتمنى من مواطنينا، كلٍ من مكانته، محاولة سد هذه الفجوة، وتذكر مع الشكر مآثر أجدادنا، وتربية الأطفال على مثال الشجاعة والنبل.