تعد ساريا لاكوبا مثالا على التفاني والصبر والتضحية النسائية الهائلة، وهي أعظم امرأة في أبخازيا، كما دعاها فاضل إسكاندر نسبةً إلى إخلاصها لذكرى زوجها، الذي لم ترفضه حتى تحت التعذيب، ودفعت الثمن بحياتها.
أريفا كاببا
ضمت حياة قصيرة استمرت 35 عاما، والتي تقاس بمصيرها، الحب والأمومة السعيدة، تألقت بشكل رائع في حفلات الإستقبال وامتلكت القوى، لخدمت زوجها و الأسرة و سنتين مخيفتين في أقبية (مفوضية الشعب للشؤون الداخلية في روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية)، التي لم تخرج منها.
ولدت ساريا (أو سارية) لاكوبا في باتومي في أسرة الثري أخميت-ماميدا دجيخ-اوغلي. وكانت أسرة الفتاة، التي كان لديها ستة أطفال آخرين، تمتلك عدة منازل على ساحل باتومي، تم تأجيرها، فضلا عن مخبز ومحلات الخاصة. والدة ساريا- ميليك باتلاندزيا- كانت أبخازية، ولدت في بلدة أشامشيرا.
وكتبت عنها عادلة عباس -أوغلي في كتابها"لا أستطيع أن أنسى": "هذه المرأة البسيطة، التي كانت في أوائل العشرينات لا تزال في الحجاب، كانت قادرة على تربية سبعة أطفال. وكلهم كانوا ودودين جدا فيما بينهم وعشقوا أمهم".
اللقاء مع نيستور
واجتمعت ساريا بزوجها المستقبلي نيستور لاكوبا (الذي كان فيما بعد رئيسا لمجلس مفوضية الشعب في أبخازيا ) في منزله الخاص في باتوم. وكان نيستور صديقا لأخيها الأكبر آكي، و هو قدأخفى صديقه الأبخازي عنده في المنزل. كان عمر ساريا حينها 15 عاما فقط، سمراء نحيلة ذات عينين بنيتين كبيرتين جذبت نيستور على الفور، كما وقعت الفتاة في حب الشاب الثوري. لقد هربا معاً من إخوتها ومن والدي ساريا، الذين عارضوا زواجها في البداية، لكن هدأوا في نهاية المطاف وقبلوا نيستور كزوج صالح. كتب الشاعر والمترجم سيرغي ليبكين قصيدة عن عائلة لاكوبا، والتي أسماها "نيستور وساريا".
وقد وقع هذا العمل الغير منشور في أيدي المؤرخ ستانيسلاف لاكوبا من فاضل إسكاندر، الذي عرف شخصيا ليبكين،و الذي نشر معه في التقويم الأدبي "ميتروبول".
في عينيها يقرأ الثبات،
ما كان الضوء، حرا، مثل الفضاء،
أقوى من غضب الأخ والتهديدات
الأب، والدموع المريرة للأم،
ومعقل الإسلام..
لقد فهم كل شيء، لقد دفع لها بالكامل.
وقال في ريفكوم، " ها هي زوجتي".
تزوجت ساريا من نيستور، ولم تكن قد أنهت المدرسة. تلقت تعليمها من معلمين أحضرهم نيستور خصيصا لزوجته الشابة. وبعد اجتياز الامتحانات، حصلت ساريا على شهادة الاستحقاق.
وكقالت عنها ناديجدا ليوتاخينا في قصة "سارية العودة إلى المنزل": "بالنسبة لفتاة أدجارية كان عملا فذا في ذلك الوقت، ونظراً للعديد من النساء الأدجاريات المسلمات في العشرينات كانت ترتدين العباءة، ولم تتوقف عند هذا الحد، فقرأت كثيراً، لتعلم ساريا نفسها. إن الأناقة الطبيعية والذوق الرفيع يكمِل العقل الحاد ومعرفة الآداب. مثل الفراشة التي خرجت من شرنقتها، تطورت ساريا من فتاة جبلية إلى السيدة الأولى في المدينة، كما كتب في مقال" ساريا تعود للوطن ".
حياة سعيدة في سوخوم
ساريا ونيستور، مع أمه وأقاربه المباشرين الآخرين عاشوا في قصر كبير في سوخوم، في زاوية الشارع الحالي لاكوبا وزفانبا. وأكثر التفاصيل وضوحا في حياة هذين الزوجين الاستثنائيين تركته كنة ساريا-زوجة شقيقها الأصغر إيمدا عادلة عباس -أوغلي في كتابها " لا أستطيع أن أنسى!."تصف ساريا كشخص ذو ذوق رفيع في كل شيء من الملابس إلى القدرة على خلق الراحة في البيت.
"كان لديها الكثير من المجوهرات، في الغالب أهديت لها من قبل الإخوة، نيستورلم يعتقد أنه من الممكن لهذا أن يفسد زوجته، وهي لم تتباهى بهم أبدا، معتبره أن هذا شكل سيئ. على سبيل المثال، إذا كنت ترتدي خاتم غالي، تحاول أن تختار الأقراط بشكل متواضع. وقد حاولت سيدات حكومتنا تقليدها، " تكتب عباس-أوغلي.
وغالبا ما جاءت نساء أخريات للحصول على المشورة من ساريا، وكانت قادرة على إعطائها، دون إهانة أي شخص، بلطف ومن القلب. نصحت زوجة اخيها عادلة بقراءة كتاب "قواعد السلوك الحسن" في عام 1864. هي نفسها كانت تعرف الكتاب عن ظهر قلب.
الأولى بين نظيراتها
ساريا كانت روح منزل لاكوبا. لقد اهتمت كثيرا بتقديم الجميع للثقافة الأوروبية، فعلى سبيل المثال، حاولت أن تجعل كل شخص في المنزل يستخدم السكاكين (من المعتاد في التقاليد الأبخازية أن تؤكل الوجبات الوطنية عن طريق استخدام اليد).
وكما أشارت عادلة شاخباسوفنا، فقد فعلت ذلك "ليس لأنها لم تكن راضية عن التقاليد الأبخازية —لكن بدا من المهم لها، أن تظهر نيستور لاكوبا متحضراً في بيئته، ونيستور أبوللونوفيتش بدا ممتناً جداً لها. في عام 1921 ولد لـنيستورو ساريا ابن يدعى رؤوف. فتى وسيم ذو عيون سوداء كان يشبه أمه كثيرا. وكانت مربيته أبخازية نازيا خونيليا، علمته اللغة والتقاليد الأبخازية. وحاولت ساريا التأكد من أن ابنها تلقى تعليما جيدا، في مكتبتة المخصصة للأطفال كانت هناك كتب روسية وفرنسية.
سيدة المنزل المضيافة، ساريا حضرت الوجبات بشكل مثالي، بما في ذلك الأطباق الوطنية،و كانت تشارك بنفسها في إعداد المائدة للضيوف،استقبلت في منزلها شخصيات مشهورة ورفيعي المستوى، أحبت الموسيقى جداً في المنزل ورقصت بشكل جميل-كان هناك باتيفون في البيت، مقدم من ستالين.
وبالمناسبة، دللت أسرة الزعيم ساريا بالهدايا: فمن زوجة ستالين سفيتلانا أليلوييفا تلقت بندقية للسيدات الصغيرات، قدم ستالين بنفسه للسيدة الأولى لأبخازيا سيارة كانت تقودها بكل سرور.
حتى عام 1936، كانت حياة عائلة نيستور و ساريا تبدو واضحة. كل شيء تغير عندما عرض ستالين على لاكوبا أن يحل محل مفوض الشعب للشؤون الداخلية ورفض قائد أبخازيا، لأنه فهم أنهم يريدون إبعاده عن الجمهورية "لإطلاق يد " بيري، الذي كان منذ فترة طويلة يضع خططا ل "إضفاء الطابع الجورجي" على أبخازيا.
رحلة نيستور الأخيرة
في مساء إحدى أيام ديسمبر نيستور قرر الذاهب وحده إلى تبليسي، حيث إستدعاه بيريا على الفور، ساريا الت كانت ترافقه في كل الرحلات، بدأت بمجادلته. ولكن نيستور كان مصرا على ذلك: فهو لم يكن ينوي بشدة أن يأخذ زوجته معه، ولم يكن يريد أن يذهب إلا مع سائقه الشخصي. "تعبت من سماع أن زوجتي هي حارسي الشخصي، لا تسمح لي بالذهاب وحدي!" نيستور غش قلبه وغادر الغرفة.
لكن قبل أن يدخل السيارة، بدأ إطلاق نار.
وهنا كما وصفت أبباس- أوغلي: "بدأ نستور أبوللونوفيتش في النزول. وبأقل من دقيقة، فجأة كان هناك طلقة صماء من الشارع. صرخت ساريا عليه رعبا، لم تهتم لنفسها، هرعت إلى أسفل الدرج، كلنا كنا خلفها. عند الباب وقف نيستور مبتسما ممسكا بذراعه الفرد. وعانق بقوة ساريا المذعورة، وقال: أنا الآن مقتنع أنه إذا حدث معي شيء، أنت، يا ساريا، سوف تبكين بحرقة.
النبوءة المشؤومة تحققت على الفور. من تبليسي نيستور لم يعد حياً. بسبب خطة الاستيطان في أبخازيا التي وضعها الجورجيون، والتي عرضها بيريا على لاكوبا، تشاجروا بشكل خطير. رفض نيستور برعب هذه الخطط، قائلا: "فقط على جثتي."وفي نفس المساء توفي: عند العشاء في منزل بيريا، الذي تم جره بالقوة اليه، زاعماً أنه من أجل المصالحة، والدته وزوجته قامتا بحمايته،لكن قائد أبخازيا تم تسميمه. في وقت لاحق من تشريح الجثة تم العثور على سيانيد البوتاسيوم السام.
عندما جاءت الأخبار السيئة للبيت بأن لاكوبا مات، ساريا شعرت بالحزن الشديد. صرخت ومزقت شعرها، وضمت ابنها لها، وهمست له بأن لا يخاف لأن "الرفيق ستالين" سيساعدهم. بدا لها لفترة طويلة أن صديق العائلة لم يعلم شيئا عما حدث لزوجها. ولكن كل أيام وداع نيستور، جاء الآلاف إلى مسرح الدراما الأبخازية، حيث التابوت مع جثة المتوفى، وتم إرسال مئات من برقيات التعازي من جميع أنحاء العالم، بعد هذا لم تنتظر أن تسمع الأخبار من "الرفيق ستالين".
الحياة بدون نيستور
بعد شهر من جنازة لاكوبا بدأت الشائعات السيئة تنتشر حوله، أزيلت صوره من كل الأ ماكن، و في النهاية بدأت الاعتقالات: الأشخاص الذين تم استدعاؤهم إلى مفوضية الشعب للشؤون الداخلية في روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفيتية، حيث اختفوا دون أن يتركوا أثرا. عندما حدث هذا لأحد إخوة ساريا ميدجيت، أخذت رؤوف،و ذهبت إلى موسكو لطلب مقابلة مع ستالين. لكنها فشلت في الوصول إلى الكرملين عادت المرأة إلى أبخازيا محطمة ومكتئبة.
إلى جانب نيستور تم الإعلان أن جميع أقاربه المقربين هم "أعداء الشعب". في خريف عام 1937، تجمدوا لسماع أخبار الإذاعة، التي بثت أخبار قضية عن "ثلاثة عشر من عائلة لاكوبا". وكان على كرسي الإتهام ميخائيل وفاسيلي لاكوبا، كونستانتين إينال-إيبا وميخائيل تشالماز وفلاديمير لاداريا وأصدقاء آخرين لنيستور. سيتم إطلاق النار عليهم جميعا لاحقا، أما زوجاتهم وأطفالهم فمنهم من سيموت،ومنهم من سيقضي حياته في السجون.
أدركت ساريا أن الغيوم تتجمع فوق الأسرة أكثر، تمكنت من الاحتفاظ بأرشيف زوجها. وكما تكتب أبباس-أوغلي، ساريا وشقيقها وبحضور الشهود حرقت رسائل تروتسكوي و غيرها من الأوراق الخطيرة في الفناء، ولكن العديد من الوثائق الأخرى رتبت في صندوق ملفوف في رقائق سميكة وخُبأت في مكان سري في المنزل.
عندما أعلن لاكوبا بأنه "عدو الشعب" و بدأت مطاردة حقيقية لأولئك الذين زعم أنهم أعدوا مؤامرة ضد ستالين، كانت هناك شائعات بأن قبر نيستور في مقبرة ميخايلوفسكي في سوخومي يمكن أن يتم تدميرها. يقولون أن ساريا استطاعت البقاء مخلصة للزوج المتوفى. ووفقا للنسخة الرسمية، تم نبش جثة لاكوبا وحرقها في منطقة الماياك (مقاطعة في سوخوم).
ومع ذلك، تذكر عادلة عباس -أوغلي في كتابها أن ساريا،و والدة لاكوبا شاخوسنا وأخ ساريا أمدي (زوج عادلة) سمعوا عن خطة الاختطاف الوشيكة، فقاموا بالتفاوض مع حارس المقبرة وسرقوا بأنفسهم جثة نيستور. تؤكد عادلة أنهم دفنوه في موطنه الأصلي ليخني، لكن أين بالضبط، كانت ساريا و شاخوسنا فقط من يعلم ذلك. لم يسمح حتى لـ آندي بالدخول إلى عملية الدفن التي قامت بها ساريا، خوفا من أن يتمكن من معرفة تلك المعلومات، ويتعرض للتعذيب. وأم نيستور وزوجته أخذوا هذا السر معهم إلى القبر.
تم القبض على ساريا في أغسطس 1937. أخذت مباشرة من المنزل الذي سابقا قد قلب رأسا على عقب بحثا عن أي من الوثائق التي تثبت أن نيستور "عدو الشعب". في الزنزانة كان لا بد لساريا أن تواجه التعذيب والترهيب الأكثر وحشية. وضعت في زنزانة منفردة، عذبت أمام إخوتها، ثم عذب أخويها أمامها. عندما لم يساعد ذلك في الحصول من ساريا على الاعتراف بأن نيستور كان يخطط ضد ستالين، تمت مواجهة ساريا مع ابنها رؤوف. الولد ضرب أمام أمه. إليك كيف تكتب عن ذلك عادلة عباس –أوغلي:
-أنقذيني يا أمي، - قد طلب - أخبريهم بكل شيء يريدون-
كن صبورا يا بني،- أجابت ساريا-، كن صبورا.. والدك كان رجلا نقي. ولن يسمحوا لنا بالذهاب على أي حال.
"إليكم هذا هو توقيعي..."
مر الوقت، لكن كل المحاولات للحصول من ساريا على شهادة، لإدانة زوجها، كانت بلا جدوى. إستخدموا الثعابين : مع العلم أن المرأة تخاف منهم حتى الموت، المحققون أطلقوا الثعابين لها في الزنزانة المنفردة. صرخات ساريا المفجعة سمعت في جميع الزنزانات.
كتبت عادلة عباس -أوغلي، التي اعتقلت أيضا في ذلك الوقت، وكانت في إحدى الزنزانات المجاورة. - كانت تبكي، وأحيانا تضحك مثل المجنونة، أو تغضب على شخص ما،و تصرخ. بعد هذه النوبات حدث نزيف في حلقها (اصيبت الرئتين). سرعان ما وصلت إلى مستشفى السجن مع نزيف للدم. المرضى قدموا الرعاية لها على قدر المستطاع، الطبيب بشكل سري قام بإعطائها الحقن لتخفيف معاناتها وألمها. لم تعد تستطيع النهوض من السرير الذي كان يتكون من الخرق والقش إنحنيت مثل إمرأة عجوز، ساريا تستلقي على سريرها، تلهث للتنفس.
وفي 16 مايو 1939، كانت تحتضر في إحدى زنزانات سجن أورتاتشال في تبليسي. وعندما جاء إليها المحقق الذي يحمل أوراقا وأمرها مرة أخرى بتوقيع الوثائق، لتؤكد أن زوجها خان ستالين، نهضت ساريا، وانحنت وسكبت دما على الورق، بعد أن قالت: "هذا هو توقيعي لكم".
مصير فظيع كان ينتظر ابنها الوحيد. وفقاً لأبباس-أوغلي، رؤوف أدين و أرسال إلى معسكر أمني. وبعد عدة سنوات كتب رسالة إلى بيريا، طلب فيها السماح له بالعودة إلى وطنه، وقال إنه يريد الدراسة والعمل. كان بيريا غاضبا لأن "رؤوف-الحية" لا يزال على قيد الحياة، وطالب بتسليم الشاب فورا من المخيم ومواصلة المحاكمة في قضيته.
وفي كل استجواب، طلب من رؤوف مرة أخرى تقديم شهادة ضد والديه باعتبارهما "أعداء للشعب"، وعرض عليه أيضا توجيه اتهامات إليهما في الصحافة وفي الإذاعة، ووعد مقابل هذا بالعيش. رفض رؤوف، ثم بدأ التعذيب.
الإحتمال الأول أنه توفي، لم يستعيد وعيه بعد سلسلة التعذيب. والإحتمال الأخر، أطلق النار على رؤوف لاكوبا في 28 يوليو 1941.
فاضل إسكاندر
الكاتب فاضل اسكاندر، في احتفال بلاده بالذكرى 75 في أبخازيا، قال مثل هذه الكلمات عن ساريا: "تعتبر أنها أعظم امرأة في بلادنا، ليس فقط من أبخازيا، ولكن من كل روسيا، لا أحد يمنعنا، لأن لها أعظم عذاب هو حقيقة تاريخية. والحقيقة التاريخية بأنها مخلصة لزوجها، لحقيقة حياته،ضحت بحياتها... يبدو لي أن أبخازيا يجب أن تضع نصب تذكاري لهذه المرأة العظيمة. أبخازيا ينقصها هكذا نصب".
وقدمت عدة مرات مبادرات عامة لإنشاء نصب تذكاري لهذه المرأة البطلة. حتى أن أحدهم اقترح أن يضع نصب تذكاري لـ ساريا عند متحف لاكوبا و يسميه "عودة ساريا للوطن". ومع ذلك، فإنه حتى الآن لم يتجاوز الكلام.